"
"
"
تحطمت عند أول صرخة..وعند آخر صرخة.. حين خطفوا آخر أنفاسي.. حين أطفأوا شعلةً كانت تضئ بداخلي..!! حطموني ، وسرقوا مني صغيري.. جنيني الذي نمى داخلي بخوف من أن يقتلعوه مني..!!
وهاهم يفعلون .. لازلت أذكر آخر اللقاء حين تركتني والعراء .. لأجلهم لأجل إرضائهم.. حتى لاتفقد بريقهم الذي يحيطُ بكَ ليخنقني أنا..!! تركتني فجنيتُ الشقاء من بعدك.. مازالت كلماتهم تتردد بداخلي كنبضٍ أنهكهُ العويل (( أنتِ حثالة .. أنتِ مجرد خادمة ، خادمة سحرتَ صغيرنا ، وستدفعين ثمنَ فعلتكِ..!! ))
كنتُ أتمنى أن تصرُخَ بهم ، تسكتهم ، وتدافع عن حقي المغصوب .. لكنك آثرت الصمت ، أختبأت خلف خوفكَ..خلف أنفاسهم الملوثة.
وبعد أن أتممتُ تسعةً من الظلم والشوق ، من الخوف واللهفة.. سرقووه ، سرقوا صغيري.. أسكتوني بضرباتٍ فوق جسدي المنكوب.. آلمتني ضرباتهم ، وخنقتني كلماتهم ، ولكنك لازلت صامتاً..!!
وتمرُّ الليالي مثقلةً بالهموم ، بالدموع والذكريات، كنت كلما غفوت رأيتهُ يبكي ، رأيتهُ يناديني (أمــاهُ أين أنتِ؟ أينَ تركتني وهؤلاء؟ أشتاقكِ ، لصدركِ الذي حرموني من دفأه ، حرموني من ذاك الغيث.. أماااه أين أنتِ؟ )
وتمرّ السنين ، ليبلُـغَ وجعي عشرون عاماً.. عشرون عاماً من الآهات التي إقتلعت فؤادي ، إيــــــه يابني كم أفتقدُ رؤياك ، لازلت بعينيّ متمثلاً بين لفائفِ الغدر التي خطفوكَ بها..!! حرموني منك وحرموك مني، كما حرمتُ أنا من رائحة والديّ ، عِشتُ يتيمة ، وتربيتُ يتيمة ، وكبرتُ يتيمة ، وتزوجت وبقيتُ يتيمة ، إعتقدتُ أنني حين تزوجتُ والدك سأكون بين كنفٍ يحميني ، يذودُ عني الخوف والبؤس ، الجوع والفقر، ولكن... كانت يدُ الظلم أسرع مني ، لتخنقني وتخطفَ صغيري مني..!!
وعلى الجانبِ الآخر من ذاك الحطام.. كان يعيشُ بين آهاتٍ وزفرات ، بين دموعٍ وغصات..!! كسروا قلبه منذ أن كان صغيراً ، حطموا طفولته ، أحرقوا كل الذكريات ، أبعدوا عنه كل الوسائل التي قد توصله إليّ ، إلى قلبي الكســـير.. لِمَ أخذتموه إن كنتم تكرهونه..؟! لمَ أبعدتموه عن صدري بغضتم رؤيتهُ بينكم..؟! لمَ إقتلعتموه من صدري..؟!
حتى جــاء ذاك اليوم الذي تباطأت فيه نبضاتي الجريحة ، كنتُ أشتاق إليه، أحلمُ به ، أختلقُ اللقاءات بيننا ، حتى بدوتُ كالمجنونة أجل مجنونةً بلقـاء روحي التي غادرتني.. لأنني خادمة..!!
ألقيتُ ببقايا جسدي على سريرٍ شوهه الصدأ.. وبين زفراتِ الشوق ، إنفتح البابُ العليل ، وبـانَ من بينهِ شاباً يافعاً ، تقدم منادياً:" أمــاه...!! "
وبين ظلمة البيت ونور معتقل بين جدران البيت أجبته بنحيب:" بنـــي.."
أسرعت خطواتُه الملتاعة إليّ ليحتضنَ مابقيَ من والدته التي كادت أن تموت شوقاً إليه، قبّـلَ يديّ ، ضمّني إليه وضممتُهُ إلى صدرٍ جرحهُ البكــاء.. وبصوتٍ جزِعٍ من هول اللقاء:" لِمَ تركتني ياأمــاه ، لِمَ تخليتِ عني؟"
أجبتُه بعد أن أجلسني وأسندني على صدره:" بنــي خطفوكَ مني ، سرقوا طفولتكَ من بين يدي ، ولكن أخبرني كيفَ عثرتَ عليّ ؟ كيف تركوكَ تأتي إليّ ؟"
أجابني:" والدي.."
أجبته بحسرة:" إيــه والدك..؟!! وأين هو عني الآن..؟!"
قام مسرعاً عني ليحضره ، أجل أحضرَ والده ، وأحضرَ الوجع المقيمَ بكل العالم ليقيمَ بصدري.. وقعت نظراتي كالسهام في قلبه ، كان خجلاً من أن ينظرَ إليّ ، إلى حالتي التي يرثى لها.. نظرَ إليَ صغيري قائلاً:" أمـاه هذا والدي ، هو من أحضرني بعدَ أن كدتُ أموتُ شوقاً لرؤيتكِ.."
ونظرَ إلى والده معاتباً:" أبتــاه لِـمَ تركتَ والدتي؟ لمَ حرمتني من ريحها، من عطفها ، من شهدها ،لمَ حرمتني من أغلى شئٍ في هذه الدنيا..؟ لمَ تخليتَ عنها..؟"
بدى واجماً لم يستطع أن ينطق ، لم يستطع أن يعلل أو يبرر الظلم الذي وقع علينا بسببه.. بسبب جُبنِه.. وبصوتٍ أخترق قلبه المفزوع أجبتُ أبني:" منذ زمن إلتقيتُ أنا ووالدك فكانت غلطة ، ووقعنا بالحب فأخطأنا مرة أخرى ، وتزوجنا فأخطأنا للمرة الثالثة ، وأخطأتُ حينَ صدقته ورفضتُ الإصغاء الى العقلِ والمنطق.. رفضني كل من رآني معه ، أحتقروني ، كرهوني ، شتموني ، سخروا مني .. وأبيتُ الخضوعَ لهم ، وحمِلتُ بكَ وأنجبتكَ بعد قلقٍ وأرق.. كنتُ أعتقدُ حينها أنّ والدكَ سيحميني ، ويبعدَ الأذى الذي الحقوه بي.. ولكنهُ فضلَ الإختباء والإختبــاء والإختبــاء.. وأخذوك مني ليزيدوا من عذابي ووجعي ، لينتقموا مني..!!"
وبدموعٍ بللت كل المعاني والكلمات:" لمَ ياأمــاه ، لم يـاأبي..؟"
وأجبتُه بعزِ الكلمات ، وشموخ الحرف، أجبته بدموع الفرحة باللقاء وحسرة القلوب، أجبته بكلماتٍ أخترقت قلب والدهِ الضرير:" لأننــي خادمــة..!!"
09/08/08, 02:22 am
![][ حنون برونزي ][](https://2img.net/i/itest/ranks/stars/stars4.gif "][ حنون برونزي ][")
